معاذ بن جبل.. وموقعة بيسان
فشلت المفاوضات التي دارت بين معاذ بن جبل t والروم، ورفض الروم الأمور الثلاثة التي عرضها عليهم معاذ (الإسلام أو الجزية أو القتال)، وعرضوا أرض البلقاء، ومساعدة المسلمين في حرب الفرس، ورفض معاذ t ذلك كله.
عاد معاذ t إلى أبي عبيدة t، فأرسل الروم في أعقابه رسولًا برسالة إلى أبي عبيدة، يقولون له: "لقد أرسلت إلينا رسولًا لا يريد الإنصاف، ونحن نعتقد أن هذا الرأي ليس رأيك".
وأرادوا أن يتقدموا بطلباتهم إلى قائد المسلمين مباشرة، وهذا يوحي بأنهم سيقدمون تنازلًا جديدًا، فأخَّروا أمر القتال، وأرسلوا رسولًا من قادة الروم للحديث مع أبي عبيدةt، فدخل مع دليله، لكي يوصله إلى أمير المسلمين أبي عبيدة، فدخل عليهم، فلم يعرف أين أبو عبيدة؛ لأنه لا يتميز عمّن حوله، وهو أمر مختلف عما عند الروم، فسأل: أين أميركم؟ فأشاروا إليه، فوجد أحدهم يجلس على الأرض متنكبًا قوسه، فتعجب وقال: أهذا قائدكم؟ قالوا: نعم.
فقال: وما يضيرك إذا وضعت تحتك وسادة؟ أهذا يضعك عند الله؟! فرد عليه أبو عبيدة t: "إن الله لا يستحي من الحق، ولأصدقنك عما قلت، والله ما أصبحت أملك دينارًا ولا درهمًا! ولا أملك إلا فرسي وسلاحي وسيفي، ولقد احتجت بالأمس إلى نفقة فلم يكن عندي، فاستقرضت من أخي هذا (وأشار إلى معاذ بن جبل)، ولو كان عندي أيضًا بساط، ما كنت لأجلس عليه دون إخواني وأصحابي، وأُجْلِسُ أخي المسلم -الذي لا أدري لعله عند الله خير مني- على الأرض، ونحن عباد الله نمشي على الأرض ونجلس على الأرض، ونأكل على الأرض، ونضطجع على الأرض، وليس ذلك بناقصنا عند الله شيئًا، بل يعظم الله به أجورنا، ويرفع درجاتنا، ونتواضع بذلك لربنا, هات حاجتك التي جئت بها".
(وأبو عبيدة t لا يتصنع هذا الموقف، فالمسلمون في هذا الوقت، الذي نسأل الله أن يعيد المسلمين اليوم إليه، كانوا يكرهون حياة الرفاهية والدَّعَة، ولم يكونوا يحبونها؛ لأنهم يعلمون أن نهاية هذا الترف تكون نهاية وخيمة، ويعلمون قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]. يقول ابن عباس في هذه الآية: أي أن الله يأمرهم بالطاعات، ولكنهم لا يستجيبون، وإنما يفسقون، ويتمادون في المعاصي، فيعذبهم الله, فمن يقوم بالفساد في الأرض -في كثير من الأحوال- هم المترفون؛ ولذلك ينصح عمر بن الخطاب t المسلمين جميعًا: "اخشوشنوا؛ فإن النعم لا تدوم".
والإسلام لا يحرم امتلاك الثروات، والأموال، ولكن يكره ويحرم الإسراف والبذخ في أي شيء؛ لأن ذلك قد يعرض الإنسان لتجاوز الحد، والتفريط في دين الله، وكان الصحابة يكرهون هذا الترف، ولا شك في أن أمين هذه الأمة أبا عبيدة t كان من أورع وأزهد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا الأمر يوقع جيش الروم في هزيمة نفسية كبيرة، عندما يعود ذلك الرسول، ويحكي لهم ما رآه من تواضع قائدهم، فسيفقد الجنود الروم ولاءَهم لقائدهم ذاك، الذي لا يجلس معهم، وهو مفضل عنهم في كل شيء، لا يرى من ضيق عيشهم شيئًا، ولا يعاني معاناتهم، بل إن بعض الأمراء كان يأتي للحرب بكامل حليه وزينته!).
عرض رومي جديد:
فقال رسول الروم لأبي عبيدة t: نعرض عليكم الإنصاف, فعرض عليه أن يعطوهم البلقاء، وما وَالَى أرض المسلمين من فلسطين، ونساعدكم في حرب فارس، وسنعطي كل جندي من جنود المسلمين دينارين وثوبًا، وسنعطيك ألف دينار، وسنعطي الذي فوقك (يقصدون الخليفة عمر بن الخطاب) ألفي دينار (فلو جمعنا المبالغ التي يريدون أن يدفعوها تبلغ 70 ألف دينار و35 ألف ثوب، وهذا كثيرٌ جدًّا في هذا الوقت، لا يتوقعه أحد من المسلمين أبدًا).
فشعر أبو عبيدة t أن الرجل لم يفهم قصد المسلمين حتى هذه اللحظة، فلم يكن منه إلا أن حمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلَّى على رسوله، ثم قال: "إن الله بعث فينا رسولًا، وأنزل علينا كتابًا حكيمًا، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادة ربهم؛ رحمة منه للعالمين، وقال لهم: إن الله واحد، عزيز مجيد، وهو خالق كل شيء، وليس كمثله شيء، وأمرهم أن يوحدوا الله الذي لا إله إلا هو، ولا يتخذوا له صاحبة، ولا ولدًا، ولا يتخذوا معه آلهة أخرى، وأن كل شيء يعبده الناس دونه فهو خَلَقَه، وأمرنا فقال: "إذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، وإلى الإقرار بما جاء من عند الله، فمن آمن وصدق فهو أخوكم في الله، له ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أَبَى فاعْرضوا عليه الجزية، حتى يؤدوها عن يدٍ وهم صاغرون، فإن أبَوْا أن يؤمنوا أو يؤدوا الجزية، فاقتلوهم وقاتلوهم، فإن قتيلكم في الجنة، وقتيل عدوِّكم في النار". فإن قبلتم ما سمعتم مني فهو لكم، وإن أبيتم فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين.
ولا شكَّ أن هذه الكلمات قد هزَّتْ ذلك القائد الرومي، وهو من المترَفين المنعمين، حيث كان يأمر فيطاع، ولكنه وجد الآن واحدًا من العرب، من رَعَاع القوم (في نظره) يقول له هذا الكلام الشديد، فقال له: أنا والله على ذلك، وإني لأراكم تتمنون غدًا أنكم قبلتم منا دون ما عرضنا عليكم!! (أي أنه يرى أن المسلمين سيندمون على حربهم للروم، وأنهم سيُهزمون لا محالة، وسيتمنون حينها أقل مما كان الروم سيعطونهم لو لم يحاربوا)، ثم تركه وانصرف.
بذلك انتهت المفاوضات مع الروم نهاية واضحة، وهي الحرب.
رسالة أبي عبيدة إلى عمر:
استعد جيش أبي عبيدة t للقتال، وبدأ في إعداد الصفوف، وأرسل إلى عمر t بأن الروم رفضوا الجزية، وأنهم سيبدءون في الحرب، وسلم هذه الرسالة إلى أحد نصارى الشام وكان عدَّاءً ماهرًا، وفي نهاية ذلك اليوم خرجت بعض القوات الإسلامية من فِحْل، للتحرش ببعض القوات الرومية التي خرجت من خلف المستنقع من "بيسان" لمناوشة المسلمين (كما أخبرتهم المخابرات الإسلامية بذلك)، فما كان منها إلا أن عادت بسرعة! وكان رسول أبي عبيدة قد انتظر حتى يرى ما حدث بعد خروج الجيش الإسلامي، ولم ينطلق برسالته إلا بعد أن عاد الجيش الإسلامي فرحًا بالهزيمة النفسية التي حققها لذلك الفريق الرومي، ووصل الرسول إلى عمر، وسلمه الرسالة من أبي عبيدة، فسأله عمر: وكيف تركت المسلمين؟ فأخبره بأنه ما تركهم حتى علم أمر ذلك الفريق، وأنه تركهم على خير حال، فعاتبه عمر لأنه تأخر في إيصال الرسالة، فقال له: علمت أنك سائلي عن ذلك. فأعجب عمر t بذكائه، وسأله ما دينك؟ فقال له: نصراني. فقال له عمر: ويحك! أسلم. فلم يكن من الرجل إلا أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
ونحتاج أن نتوقف قليلًا عند هذا الموقف المهم، إذ فيه يتجلى ملمح من ملامح الخليفة الفاروق عمر t، الذي لم يضيع فرصة وجود هذا النصراني، حتى دعاه إلى الإسلام، وحتى كان سببًا في نجاته من النار! فلم يكن تعامل الخليفة معه تعاملًا عاديًّا لكونه مجرَّد رسول من قائده، ولكنه يدعوه إلى الإسلام في هذا الوقت السريع المحدود، ويسلم الرجل فعلًا، وهكذا يجب على المسلم ألا يضيع وقتًا أو فرصة للدعوة إلى الله، فسيجد المسلم -في كل وقت- مَن هو أهلٌ لأن يدعوه، ويستنقذه من النار، ويدخله -بفضل الله ورحمته- الجنة، وذلك يكون حتى بين المسلمين أنفسهم، بأمره بطاعة، أو نهيه عن فعل معصية، كما أنه لا شكَّ أن لدى هذا الرجل قابلية منذ البدء للإسلام، فعمر لم يوضح له قواعد الإسلام أو ضوابطه، ولكن هذا الرجل -لا شك- قد رأى من جنود المسلمين بأرض الشام ما أعجبه، وما وجد فيه الفرق بين الإسلام وبين النصرانية، وبين تطبيق المسلمين للإسلام، وتطبيق النصارى للنصرانية؛ فلم يتبقَّ له إلا الشيء اليسير، الذي حركه في نفسه طلب خليفة المسلمين عمر.
ونستفيد من ذلك أن لكل فرد عددًا من الأفراد ينقلونه من حال الكفر إلى الإيمان، أو من المعصية إلى الطاعة، نفترض أن لكل فرد مثلًا خمسة أشخاص، يحدثونه كل واحد على حدة، وفي أماكن مختلفة، ومواقف مختلفة، ولا يسلم أو لا يتغير إلا بعد جهد هؤلاء الخمسة، الذي اخْتُزِن في ذاكرته طويلًا، ولا يسلم إلا على يد الخامس هذا، وهذا -لا شك- لا ينقص من أجر الأربعة الذين سبقوه شيئًا، فعلى المسلم أن يسعى دائمًا، وليس عليه أن ينتظر النتائج، أو أن يرى النتائج أمامه!! وفي المقابل إذا أسلم على يده أحد، أو اهتدى على يده أحد، لا يبالغ بالافتخار بذلك، ويعتقد أنه هو الوحيد صاحب الفضل في ذلك، بل إنه مجرَّد الأخير، وقد سبقه -ولا شك- الكثيرون.
المناوشات الأولى.. وبداية موقعة بيسان:
خرج خالد بن الوليد بمقدمة الجيش في مناوشات أخرى مع مقدمة جيش الروم في 1500 من الفرسان، فقسم جيشه أقسامًا ثلاثة، وكان هو في قلبها، وعلى الميمنة قيس بن هبيرة، وعلى الميسرة ميسرة بن مسروق.
تقدمت إحدى القوى الرومية، فخرج إليهم قيس بن هبيرة في مجموعة من الخيول، وصدهم صدًّا شديدًا، على الرغم من أن قوة الروم كانت أكبر بكثير، إلا أن قيسًا صبر كثيرًا، ولم يُقتَل الكثير من الطرفين، فعاد قيس وفريقه، وبعد قليل خرجت مجموعة، فخرج لهم ميسرة بن مسروق بمجموعته، وصدهم صدًّا شديدًا، فقُتل من الروم بعضُهم، ولم يُقتل من المسلمين أحدٌ، فعاد الطرفان، ثم خرج من الروم قوة أكبر، عليها قائد مقدمة الروم، فخرج إليها خالد بن الوليد بنفسه، وبعض جنده، فصدها صدًّا عنيفًا، وقتل منها كثيرًا فعادت، لكنـه لم يعد، واستمر بقواته، واقتحم مقدمة جيش الروم، على غير المألوف، فهجمت الطائفتان (الميمنة والميسرة) المسلمة على بقية الجيش الرومي، وأحدثت فيهم مقتلة عظيمة، لدرجة أنهم لم يكن لهم من هَمٍّ إلا الفرار!! وتتبعهم خالد بن الوليد حتى دخلوا معسكرهم، فعاد خالد بن الوليد وفرسانه، فرحين بما حصدوه من نصر، وما حصلوا عليه من غنائم، وبما أحدثوا من هزة نفسية شديدة للروم.
ثم فكر خالد بن الوليد في هذه الليلة مع أبي عبيدة في كيفية مواجهة هذا الجيش الرومي الهائل، ويلهمه الله فكرةً ذكية، وهي أن جيش الروم الآن في أضعف لحظاته، وأن الهجوم عليهم يجب أن يكون في الصباح، ويوافقه أبو عبيدة على ذلك، ويبدأ أبو عبيدة في الثلث الأخير من الليل (في ذلك الوقت الشريف، حيث ينزل الله إلى السماء الدنيا، فيعطي كل سائلٍ مسألته) يصُفُّ المسلمين، ويدعون الله، ويجهزون صفوفهم لملاقاة عدوهم بعد صلاة الفجر.
ساعة الصفر بعد الفجر:
كان ذلك في 28 من ذي القعدة عام 13هـ (الموافق 23 من يناير 635م)، حيث متوسط درجة الحرارة في هذه المنطقة آنذاك 12 درجة مئوية، فجوُّ الحرب قارس البرودة عليهم، وهم لم يعتادوا على مثل تلك الأجواء، وخاصة أنهم قادمون من مناطق حارة (كالمدينة ومكة)، ومع ذلك تحملوا برودة الجو الشديدة، وأعدوا العدة والعتاد للحرب، يمرُّ أبو عبيدة على كل مجموعة، ويحمسهم للقتال في سبيل الله، قائلًا: "عباد الله، اِستوجِبُوا من الله النصر بالصبر، فإن الله مع الصابرين".
ثم أردف قائلًا: "إني أبشر من قُتِل منكم بالشهادة، ومن بقي منكم بالنصر والغنيمة، ولكن وَطِّنوا أنفسكم على القتال، والطعن بالرماح، والضرب بالسيوف، والرمي بالنبال، ومعانقة الأقران، فإنه والله لا يُدْرَك ما عند الله إلا بطاعته، والصبر على ذلك في هذه المواطن المكروهة".
ثم بدأ بعد صلاة الفجر مباشرة وقبل أن تطلع الشمس، في تحريك الجيوش الإسلامية من (فِحْل) عابرةً نهر الأردن، من الشرق إلى الغرب، من مخاضة كان ارتفاع المياه فيها نصف متر تقريبًا، ثم يُصفّ المسلمون صفوفهم في هذه الجهة، وعلى الجهة المقابلة كان الجيش الرومي بقيادة (سقلار) وهو من كبار قواد الروم، يظنُّ أن المسلمين سيكونون نائمين، ففكر أن يباغت المسلمين، وبدأت الجيوش تتحرك باتجاه الجيش المسلم، فوصل إلى جنوب المستنقعات، ففوجئ بوجود الجيوش الإسلامية مصفوفة على هيئة القتال، وكانت هذه مفاجأة قاسية لهم، ودليل على ضعف المخابرات الرومية آنذاك، إذ لم يكتشفوا تحرك المسلمين حتى ذلك الوقت!! فرأى خالد وجيشه أن الجيش الرومي عرضه كبير، لا يرى أوله من آخره، وهو جيشٌ ضخمٌ جدًّا، فأخذ خالد بن الوليد مقدمته (الألف وخمسمائة فارس)، وانطلق باتجاه الجيش الرومي، في جولة استطلاعية حتى يرى نظام الجيش الرومي وإعداده، فرأى لهم ترتيبًا عجيبًا آنذاك، حيث وجد أن للروم قلبًا وميمنة وميسرة، ولكن في القلب خليطًا من الجنود الفرسان والمشاة (على غير المعتاد، وقد كان المعتاد أن يكون الفرسان بمفردهم، والمشاة بمفردهم)، كما جعلوا كلَّ الخيل من جهة الميمنة راميًا ورامحًا، وذلك لحماية الجيش الرومي من الخيول الإسلامية، فرأى خالد أن هذا القلب بذلك في منتهى القوة؛ لأنه محميٌّ من الطرفين بالرماة والرماح، فلا يمكن أن يقترب منه الخيل المسلم إلا وأصيب! ويعلم خالد جيدًا أن الروم يعلمون تفوق الخيل العربي على خيل الروم، مهما كانت قوة هذا الخيل الرومي، وكان ذلك تجهيزًا ذكيًّا من الروم.
كما أنه لاحظ أن الميمنة والميسرة كلها مشاة، لا خيول فيهم، وهذه هي نقاط ضعف الجيش الرومي، كما لاحظ أيضًا أن عرض الجيش ضخم جدًّا، لدرجة أنه لو هجم على المسلمين، وهو بهذه الضخامة، فمن الممكن أن يلتف حول المسلمين (مع فارق العدد الهائل)، كما وجد أن ظهر الجيش الرومي مفتوح، أي أنه لو هُزِم فسيكون الفرار يسيرًا لهم، ففكر على الفور في التغلب على هذه الخطة، فبدأ بالاقتراب من الروم، وكأنه سيقاتلهم، فتجرأ عليه الروم وهاجموه، كل ذلك والجيش الإسلامي كله لا يزال في مكانه مستقرًّا، فتتجرأ القوات الرومية، وتبدأ بحرب القوة التي مع (خالد) ويُظهِر خالد الفرار، وكأنه خشي من القوات الرومية، فيتجرأ الجيش الرومي في ملاحقته، حتى جعل الجيش الرومي يصل إلى المنطقة التي يكون من خلفه فيها المستنقعات، وبذلك تغلب على عامل الهرب، وحاصرهم من الخلف، مما يؤثر عليهم، كما أن هذا المكان ضيق، ولا يتسع لهذه الجيوش العريضة أن تقف أمام جيش المسلمين، فما كان منهم إلا أن صفوا صفوفهم أكثر، فقل عرض الجيش (لو افترضنا أن الجيش 100 ألف، ووقف كل ألف متجاورين، فإنهم يكونون 100 صف، أما إذا وقف في كل صف مائة، فإنهم يكونون ألف صف!!) وخالد يضمن كفاءة الصف المسلم، بتقليل أفراد الصف الرومي المقابل له، فيريد أن يقاتل كل رجل رجلًا من كل صف، ولا يتجمع في قتال كل مسلم أكثر من رومي، وبذلك لم يتبق أمامه إلا مشكلة قلب الجيش الرومي الذي يحيطه الرماة ويحمونه، فوضع الخطة مباشرة أن قسم المقدمة (الفرسان) إلى ثلاثة أقسام، كل قسم 500، ويجعل على الميمنة قيس بن هبيرة، ويجعل نفسه على الميسرة، ويضع ميسرة بن مسروق في قلب المقدمة، ثم يشير إلى قيس وينطلق بالميسرة معه، إلى أجناد الجيش الرومي الميمنة والميسرة (المشاة) فيبدأ في حربهم..
وكان القتال عنيفًا أباد فيه المسلمون كثيرًا من الروم؛ لأن الروم مشاة، وقد اقتحم عليهم الفرسان المسلمون بخيولهم، وحقق المسلمون نصرًا سريعًا في البداية، وعلم خالد أن جيش الروم عندما يجد ما يحدث في الميمنة والميسرة من هزيمة كبيرة، ستتجه خيولهم مباشرة لنجدة الميمنة والميسرة، وهذا ما فعلته الجيوش الرومية، وبذلك فقدت قوتها فانكشف قلب جيش الروم، ثم قال خالد بن الوليد: الله أكبر! أخرجهم الله لكم من رَجَّالَتِهم (وهكذا ينسب الفضل كله إلى الله)، ثم يقول: شُدُّوا عليهم. فانقض ميسرة ناحية قلب الجيش الرومي المكشوف، وبدأ يحاربهم، وأتت الجيوش الرومية إلى خالد وقيس، وهما لم يعودا يخشيان هذه الخيول، بعد أن تركتهم تلك الحماية.
كل ذلك يحدث، ولا يزال الجيش الإسلامي في مكانه ثابتًا، وخالد بن الوليد يجبر عدوه على التحرك، واتخاذ قرارات، ومواقف معينة، كما يريد هو؛ نتيجة لذلك يشتد القتال على أجناب جيش الروم من قبل قيس وخالد، ويتقدم ميسرة تجاه المقدمة.
المسلمون في بيسان:
وبدأ الجيش الإسلامي الموجود في هذه المنطقة يدرك خطة خالد بن الوليد، الذي كان قد بدأ في تنفيذها فورًا، فلم يسعفه الوقت حتى يستأذن، أو يخبر أبا عبيدة، بل كانت كل حركته في سرعة، ثم انطلقت جيوش المسلمين: معاذ بن جبل على الميمنة في ميسرة الروم وخلف خيولهم، وسعيد بن زيد يساعد ميسرة في القلب، وهاشم بن عتبة على الميسرة يهاجم ميمنة الروم، وخلف جنود الروم أيضًا، وهكذا حُصِرت ميمنة جنود الروم بين هاشم وخالد، وحصرت الخيول في الميسرة بين معاذ وقيس، وأبو عبيدة يحمي بفريقه مؤخرة المسلمين، واشتد القتال، واستعرت الحرب، حتى نزل عليهم الليل، ووقع الكثير من القتلى في صفوف الروم، حتى إن الرواة يذكرون أن جيش الروم كله قد أصيب (80 ألفًا)، ولم يفلت منهم إلا الشريد، أي أن الروم لما أدركتهم الهزيمة، بدءوا يتراجعون ففوجئوا بسقوطهم في المستنقعات، فتمكَّن المسلمون من اللحاق بهم، ووقع الكثير منهم في القتل.
وكل هذا يدلنا على مدى قوة المسلمين، وصبرهم في ميدان الجهاد، فبحسابات الدنيا نجد أن جيش المسلمين (25 ألفًا) أمام جيش الروم (80 ألفًا)، أي أن المعركة غير متكافئة إطلاقًا، وعلى كل مسلم أن يقتل 3 من الروم، ولكنهم أخذوا بأسباب النصر، فكان توفيق الله حليفهم.
نماذج عسكرية فذة في بيسان:
ظهرت في هذه المعركة نماذج إسلامية كبرى، كان منهم خالد بن الوليد، الذي قاتل -كما يروي الرواة- في هذه المعركة قتالًا شديدًا، وكان عِبْرة لمن بعده من المسلمين -فأصبح يُضرب به المثل، فيقولون للمجاهد الذي قاتل بكفاءة عالية: قاتل كقتال خالد في بيسان- وقتل بنفسه أحدَ عشرَ قائدًا روميًّا، وكان حريصًا طوال المعركة على قتال الفرق القوية، وقتل القادة فيهم.
ومنهم قيس بن هبيرة (ابن مكشوح)، الذي قاتل قتالًا عنيفًا حتى تكسرت في يده 3 أسياف وأحد عشر رمحًا، كلما كسر سيف أرسلوا إليه آخر، ورأى منه المسلمون موقفًا عظيمًا، وبذلك صَدَقَ أبا بكرٍ، عندما وعده فقال: "لئن أمدَّ اللهُ في عمرك وعمري، لأرينَّك وأُرِي المسلمين موقفًا يُرضي الله ورسوله". وبالفعل أطال الله في عمره، حتى رأى منه المسلمون مواقف جليلة.
ومعاذ بن جبل كان من أشد المسلمين قتالًا في هذه الموقعة، وكان من أمضى الناس سيوفًا في رقاب الروم، وكان من أحرص الناس على إخوانه المسلمين، وعلى الرغم من أن ما نعرفه عن معاذ بن جبل، أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام وهو إمام العلماء، كان هذا الإمام الورع -على علمه وزهده وتقواه- خبيرًا بالحرب والعسكرية، وهو يقدِّم الصورة الحقيقة للمسلم، فالمسلم الحق هو من يؤدي الفريضة في وقتها، ففي وقت الجهاد تغدو ساحة القتال أفضل من ساحة المسجد، فترك دروس العلم، وذهب للجهاد في سبيل الله.
كذلك كان عمرو بن سعيد من أشد الناس قتالًا في هذه الموقعة، وهو -كما نعلم من تاريخه- حريصٌ على الجهاد في سبيل الله، وكان أول من قام لما استنفر أبو بكر وعمر المسلمين للجهاد في الشام، حتى إنه استشهد في هذه الموقعة، وكان من القلائل الذين استشهدوا فيها، وكان لاستشهاده قصة؛ إذ إنه لضراوة قتاله، وشدة بأسه في قتالهم، كَوَّن له الروم فريقًا من الجنود لقتله، ورآه أحد المسلمين من على بُعْدٍ، وقد سال الدم من عينيه، وقد فَقَدَ كلتا عينيه، وقبل أن يصل إليه أخوه المسلم قطعوه بأسيافهم، فكان بجسده أكثر من ثلاثين ضربة!! واستشهد.
وقد أجزل الله العطاء للشهيد في سبيل الله؛ لما يبذله في أرض المعركة من بذل وتضحية، ولما يلقاه من أهوال وصعوبات، ولا يَقْوى على الصمود فيها إلا من ثبته الله، ومن وفقه الله لهذه الدرجة العالية.
وما يطمئننا أن رسول اللهيقول: "مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ". رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب.
فكل ما على المجاهد أن يثبت فقط حتى يستشهد، فهذه هي الفترة الصعبة في حياته، وكفى به فتنة أنه يرى الموت تحت ظلال السيوف، فالشهيد في سبيل الله لا يُفتنُ في قبره، ولا يُفتنُ يوم القيامة في الحساب، بل يدخل الجنة دون حساب، ويُغْفَرُ له من أول دفعة من دمه، ويغفر له جميع الذنوب إلا الدَّيْن.
يقول ابن القيِّم في "إغاثة اللهفان" عن الشهادة في سبيل الله: "وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا كما في ألم القرصة، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على المعتاد في موت بني آدم، فمَنْ عدَّ مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الموتات وأفضلها، وأعلاها، ولكن الفارَّ يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد كذَّب الله هذا الظن حيث قال: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} [الأحزاب: 16]، فأخبر الله سبحانه أن الفرار من الموت لا ينفع بشيء، وأنه حتى إن نفع، فسيكون هذا الشيء قليلًا، ثم قال سبحانه: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [الأحزاب: 17]، فإذا أراد الله للمرء سوءًا فإنه لا محالة لاقيه! {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11].
وكانت هذه المعركة من المعارك العظيمة في الإسلام، والتي هُضِم حقُّها في التاريخ؛ إذ نجد قليلًا من المسلمين مَن يعلمون أمر هذه المعركة العظيمة، بل إنه حتى أهل (بيسان) اليوم ربما لا يعرفون هذه الموقعة، فيجب أن يعرف المسلمون كل هذه المواقع الإسلامية المهمَّة، والتي فَصَل الله بها بين الحق والباطل، ومهّدت لفتح أرض الشام أمام المسلمين.
ملاحظات على المعركة:
كانت هذه الموقعة دليلًا على كفاءة المسلمين، لاحظنا فيها تأييد الله للمسلمين، وهذا سبب كافٍ، ولكننا يجب أن نذكر أن ذلك التأييد من الله استحقه المسلمون آنذاك؛ لما تمسكوا بكتاب الله، وسنة نبيه.
كما كان القائد في هذه الموقعة -كما بدا- هو خالد بن الوليد، وإن كان أبو عبيدة هو القائد الرسمي، إلا أننا لمسنا براعته العسكرية، ومهارته في القيادة، ولاحظنا كيف تمكّن من استدراج جيش الروم إلى المنطقة التي يريد أن يحاربهم فيها، كل ذلك التخطيط البارع وجدناه عند خالد، في مقابله وجدنا القائد الرومي يرتبك، وتفشل كل مخططاته للحفاظ على جيشه، مما أدى إلى تلك الهزيمة النكراء!! وكما يقول الرواة: "إن الله نصر المسلمين بما كانوا يكرهون", فقد كره المسلمون ذلك المستنقع، الذي وضعه الروم لعرقلتهم، فإذا به يتحول إلى الفخ الذي تسقط فيه فلول الجيش الرومي؛ كل ذلك لإثبات أن النصر إنما يكون من عند الله، ينصرهم كيف يشاء.
كما تميز الجيش الإسلامي في هذه المعركة بخفة الحركة، وسرعة الأداء، وهذا ما اعترف به حتى المؤرخون النصارى، إذ أسرع المسلمون، منذ اللحظة الأولى في التحرك، والاستجابة لتعليمات خالد بن الوليد، وباغتوا الروم أكثر من مرة؛ مما كان له عظيم الأثر في انتصارهم.
كما تمتعوا بكفاءة قتالية عالية، وصبرهم على القتال من الفجر حتى الظلام كان أمرًا لافتًا للأنظار، كذلك لا ننسى دور المخابرات الإسلامية في هذه المعركة، على عكس المخابرات الرومية، وكذلك الروح المعنوية العالية للمسلمين، فهم يقاتلون وليس أمامهم إلا إحدى الحسنيين: إمّا النصر، وإمّا الشهادة.
وبعد الانتصار كتب أبو عبيدة لعمر بن الخطاب يبشره بالنصر، وأرسل الرسالة مع سعيد بن عامر، وذلك أن سعيدًا تاقت نفسه إلى حج بيت الله الحرام، فطلب من أبي عبيدة أن يرسله إلى عمر y جميعًا، وبدأ المسلمون يتسلمون الأردن وفلسطين من أهلها.
الكاتب: د. راغب السرجاني
المصدر: موقع قصة الإسلام